يا أيها المسلمون: سبحوا بحمد ربكم
تسبيح الله سبحانه وتعالى شعبة من شعب الإيمان، وهي الشعبة التي ترجع إليها كل شعب الإيمان لأن أصل الإيمان تسبيح الله وتنزيهه، والكفر مرده إلى نسبة ما لا يليق بالله إليه.
فما التسبيح؟ وكيف كان أصل الإيمان تسبيح الله، وكيف كان الكفر كله والشرك عدم تسبيح الله جل وعلا؟
معنى التسبيح: التنزيه والإبعاد، والله سبحانه وتعالى سبوح قدوس بذاته، وتسبيح العباد لله هو اعتقاد تنزيهه سبحانه وتعالى عن المثيل، والنظير، والكفء والشريك، والظهير، وكل ما يعتري المخلوق من الضعف والموت والفقر والآفة، وكل ما لا يليق أن ينسب إلى الرب سبحانه وتعالى مما نفاه عن نفسه جل وعلا.
الكون كله مسبح لله جل وعلا بلسان الحال أو بلسان المقال:
اعلم رحمني الله وإياك أن الكون كله يسبح لله جل وعلا إما بلسان حاله أو لسان مقاله.
فأما لسان الحال فإن قيام هذا الكون على هذا النحو من الإبداع والاتقان والإحسان، والتناسق والوحدة، وجريانه على نسق لا يلحقه تفكك أو فطور، أو ضعف أو فوضى، أو خلل كل ذلك دليل قائم شاهد بلسان حاله أن خالق هذا الكون البديع إله قادر حكيم عليم قائم عليه مقتدر لا يعجزه شيء، وهذا دليل يحتمه ضرورة العقل، ويدفع إليه النظر، ولا يماري فيه إلا كافر جهول.
وقد جاء به الدليل السمعي الذي بلغته الرسل. قال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد بعده أنه كان حليماً غفوراً}
وقال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور* الذي خلق لكم سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}
وقال تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}
وقـال تعالى: {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون* وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آيتها معرضون* وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون}
فالكون كله شاهد بلسان حاله شاهد أن له رباً خالقاً مبدعاً قوياً قادراً عليماً سميعاً بصيراً..
يشهد بذلك ولا يماري فيه كـل من له قلب يعقل، وعين تبصر، وأذن تسمع، ولا يجحده إلا من قـال الله فيهم: {ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}
وأما شهـادة المقال فإن جميع أهل الإيمان من الملائكة والإنس والجن شهدوا لله سبحانه وتعالى بما شهد لنفسه، وسبحوا الله ونزهوه عن كل عيب ونقص.
وهذه جحافل الإيمان الرسل وأتباعهم منذ آدم إلى يومنا وشهدوا بذلك وتعرضوا من الكفار لكل صنوف الأذى فما ردهم ذلك عن دينهم.
وقد جاء الخبر الإلهي بأن المخلوقات مسبحة لله جل وعلا لساناً وحالاً.
قال تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً }
وقال تعالى: {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون }.. قد علم الله صلاته وتسبيحه، أو قد علم الطير كيف يصلي ويسبح لخالقه.
وقال جل وعلا: {سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم}
وقال جل وعلا: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم}
وقال تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم }
وقال تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}
الملائكة: أعظم خلق الله تسبيحاً لله:
والملائكة هم أعظم خلق الله تسبيحاً له وتنزيهاً له، ولا عَزْوَ في ذلك فهم أعلم مخلوقات الله بالله، وأقرب مخلوقات الله إلى الله. قال تعالى عنهم: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} والذين عند الله هم الملائكة.
وأعلاهم حملة العرش قال تعالى عنهم: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلهم وقهم عذاب الجحيم }
وقال تعالى: {وترى الملائكة صافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين }
أعظم الخلق عبادة أعظمهم تسبيحاً لله:
وكلما ارتقى العبد في مجال العبادة، ارتقى في مجال تسبيحه لله جل وعلا. قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {سبح اسم ربك الأعلى}
وقال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا، وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم}
وقال تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر:97-99)
وقال تعالى لرسوله معلماً إياه بدنو أجله: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً}
وذلك لتكون ختام حياته كبدء رسالته تسبيحاً بحمد الله جل وعلا.
عن أي شيء يسبح الله سبحانه وتعالى وينزه:
والله تبارك وتعالى يسبح وينزه عن كل ما يليق به إذ هو الرب الإله، الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، بديع السموات والأرض، الذي أحسن كل شيء خلقه، الرحمن الرحيم، الملك العلام القهار الذي قهر كل شيء وذل له كل شيء، الحي الذي لا يموت، والذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعتريه ما يعتري المخلوق من نقص وآفة، الذي لا يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا يبلغون نفعه فينفعوه، والغني عن كل ما سـواه، وما سواه مفتقر إليه وهو لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، والذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والمثل الأعلى، والذي لا يحيط أحد من خلقه علماً به، وهو يحيط علماً بكل مخلوقاته الذي لا ند له ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا كفء له... هو سبحانه وتعالى المنزه عن أضداد هذه الصفات، ومتصف بكل صفات الكمال والجلال والعظمة والكبرياء.
التسبيح والحمد طرفان لشيء واحد:
والتسبيح والحمد طرفان لأمر واحد، فالحمد إثبات صفات الكمال، والتسبيح نفي صفات النقص، ولا يكون الإيمان إلا باجتماع الأمرين فمن أثبت لله صفات الكمال ولم ينف عنه صفات النقص فما آمن بالله ولا عرفه ولا وحده.
ومن نفي عن الله صفات النقص، ولم يثبت له صفات الكمال، فما عرف الله ولا آمن به حقاً، ولا وحده... لذلك أمرنا أن نسبح الله حال كوننا حامدين له. قال تعالى: {فسبح بحمد ربك} والمعنى نزه الله تبارك وتعالى حال كونك حامداً له. وقال تعالى: {يسبحون بحمد ربهم}
أول ما يجب تنزيه الله عنه هو الشبيه والنظير والمثال والكفء:
وأول ما يجب على العباد أن ينزهوا ربهم سبحانه وتعالى عنه هو الشبيه والنظير، والمثال والكفء والند، فالله سبحانه وتعالى لا مثيل له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا نظير له. قال تعالى: {قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد}
وهذه السورة يعدل ثواب قراءتها ثواب قراءة ثلث القرآن لأنها اشتملت على صفة الرب وفيها تنزيه الله عن أن يكون له كفء أو مثال أو شبيه، والشهادة بذلك أعظم أبواب الإيمان.
فالله سبحانه وتعالى أحـد، واحد في ذاته لم يتولد من شيء، ولا يولد منه شيء، فلو كان له ولد تعالى الله سبحانه - لكان من جنس أبيه، رباً إلهاً خالقاً قادراً متصرفاً... وليس لله كفء يضاهيه في صفة من صفاته أو فعل من أفعاله التي اختص بها نفسه.
الأفعال والصفات التي لا يتصف بها إلا الله سبحانه وتعالى:
ولله سبحانه وتعالى أفعال وصفات اختص نفسه بها، ولم يجعلها في مقدور أحد من خلقه ولا ملائكته، ولا رسله. فمن ذلك:
الخلق:
بمعنى إخراج المادة من العدم إلى الوجود، وإعطاء كل مخلوق صفته وقدره، وبقاءه وموته، وعمله... الخ
فالله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء. قال تعالى: {الله خالق كل شيء}، وقال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}
وقد تحدى كل مخلوقاته أن يخلقوا ذرة من الوجود. فقال تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب}
ولذلك كان من نظر علماء المادة أن المادة لا تعدم، ولا تستحدث من العدم، وهذا حق بالنسبة للمخلوق، وأما الخالق فهو الذي أخرج هذا الكون من العدم وهو الذي يتصرف فيه بما يشاء، وأما المخلوق فإنه أعجز عن أن يخلق ذرة، أو يفني ذرة!!
التصوير والتقدير:
وكما أن الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض أي يخرجهما إلى الوجود فهو كذلك مبدع السموات والأرض والذي أعطى كل شيء خلقه الذي هو عليه أي صورته وشكله، وطبائعه وغرائزه وحده ومقداره.
قال تعالى: {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون* يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون* ذلك عالم الغيب والشهـادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين* ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين* ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون}.
ومن أسمائه سبحانه وتعالى (المصور). قال تعالى: {هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم}.
فهو سبحانه وتعالى الذي أعطى كل مخلوق صورته، ولن يعجزه أن يمايز بين كل فرد في النوع الواحد بصورة مخالفة لصورة الآخر وهذا من كمال علمه وسعة قدرته. قال تعالى مذكراً الإنسان بنعمة الله عليه في الصورة والمثال الحسن: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم* الذي خلقك فسواك فعدلك* في أي صورة ما شاء ربك}، وفي الحديث الصحيح أنه إذا مر على النطفة أربعين يوماً أرسل الله لها ملكاً فقال: أي ربي ما عمله؟ أذكر أم أنثى؟ ما أجله؟ أشقي أم سعيد؟ فيكتب هذا كله قبل أن ينفخ فيه الروح.
التصريف:
والله سبحانه وتعالى خالق كل شيء أي موجده من العدم، وكذلك مبدعه، ومصوره، وكذلك أيضـاً مصرفه وموجهه، وهاديه، وخالق عمله، ومالك تصرفاته، فما من حركة ولا سكون من المخلـوق إلا والله علمها وقدرها، وبرأها، وهدى المخلوق إليها. قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}
فهـو الذي خلق وسوى المخلوق كما يشاء، وهو الذي قدر عمل هذا المخلوق وهداه إليه وأقامه فيه. قال تعالى عن الإنسان: {هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً* إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}
فالله هو الذي هدى الإنسان ليتخذ سبيل المؤمنين أو سبيل الكافرين. قال تعالى: {وهديناه النجدين}.. أي طريق الخير أو طريق الشر: درب السعادة أو درب الشقاوة.
وقـال تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً}
وقـال صلى الله عليه وسلم: [اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة]
الرزق:
وكما أن الله سبحانه هو الخالق وحده، والمتصرف في خلقه وحده، فهو رازقهم وحده جل وعلا. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}.
وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
وقال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم}.
وقال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم}
وليس معنى كون الله هو الرزاق وحده أنه خالق الرزق فقط، بل وخالق سعي العباد إلى الرزق، فهو الرزاق خلقاً للأرزاق، ولا يستطيع غيره أن يخلق شعيرة، ولا حبة بر واحدة، ولا ثمرة، بل ولا ذرة من ثمرة، بل هو أيضاً وحده سبحانه وتعالى مالك سعي خلقه إلى ما يرزقهم إياه، ويطعمهم إياه، فهو سبحانه الرزاق خلقاً وسعياً وكسباً، فكسب العبد من خلق الله سبحانه وتعالى.
الله سبحانه هو المالك والملك وحده:
ولما كان الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، وهو مالك تصرفات عباده وحده، وخالق أفعالهم وحده، كان هو المالك لكل الملك وحده، وهو الملك على الحقيقة وحده. قال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك} فالملك كله بيده وحده،ورهن تصرفه. قال تعالى: {له مقاليد السموات والأرض}، والمقاليد هي المفاتيح، فالخزائن كلها عنده وحده، وهو الذي يعطي عباده من خزائنه. قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم}
وإذ ذكرنـا الخزائن فلنذكر أن عطاء الله لا ينضب ولا ينقصه كثرة الإنفاق. قال صلى الله عليه وسلـم: [يد الله ملأى سحاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنها لم تنقص ما في يمينه]!!
وقال تعالى في الحديث القدسي: [يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وقفوا في صعيد واحد، وسألني كل مسألته فأعطيته إياها لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، فلينظر بم يرجع...] الحديث
فإذا كان خروج إبرة من البحر بشيء من البلل ينقص ماء البحر، فكذلك إعطاء الله كل مخلوقاته من أول ما خلق إلى آخر ما خلق، كل فرد فيهم ما يطلبه ويتمناه ويشتهيه، فإن ذلك لا ينقص شيئاً مما عند الله، الذي إذا أراد شيئاً أن يكـون قال له كن فيكون!! ولا يعيدها... قال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر}
الله هو الملك وحده:
ولما كان الله سبحانه هو المالك وحده لأنه الخالق وحده، فهو كذلك الملك وحده، لأنه المتصرف في خلقه بكل أنواع التصرف، فلا مشيئة للعبد إلا بعد مشيئته ولا فعل للعبد إلا بأمره الكوني القدري. وملك غير الله ملك عاري لا حقيقي.
الله هو الذي له الأمر وحده (الكوني القدري، والتشريعي الديني):
ولما كان الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، والمتصرف في عباده وحده كان هو الذي له الأمر وحده: الأمر بشقيه: الأمر الكوني القدري، والأمر التشريعي الديني، فأما الأمر الأول وهو الكوني القدري فإنه ما من حـركة ولا سكون، ولا وجود ولا عدم ولا تصرف في صغير ولا كبير إلا بأمره. قال تعالى: {إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول كن فيكون}، وقال تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}
وقـال تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً}. وقال جل وعلا لرسوله: {ليس لك من الأمر شيء}، وقال: {قل إن الأمر كله لله}
وقـال جل وعلا: {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله}، وقال تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد}، وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً}
وكما له سبحانه وتعالى الأمر الذي أراده كوناً وقدراً، فإن الأمر التشريعي له كله فهو الذي يأمر عباده بما شاء من طاعة، وينهاهم عما شاء من معصيته، فالشرع شرعته، والحلال ما أحله، والحـرام ما حرمه، والدين ما ارتضاه لعباده، والرسل مبلغون عنه، وليسوا مشرعين من عند أنفسهم وهم ممتثلون لأمره، مبلغون لحكمه. قال تعالى لرسوله: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك}، وقال تعالى له: {ليس لك من الأمر شيء}، وقال تعالى: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}، وقال تعالى: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي}..
والعلماء مبلغون عن الله ورسوله، وليس لهم أن يجتهدوا بما يخالف أمر الله ورسوله، ولا حجة في قول أحد يخالف قول الله ورسوله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والعالم إذا اجتهد فإنما يجتهد ليتوصل إلى ما يظن أنه حكم الله، ولا يجتهد ليعطي الناس رأيه ومعقوله وما ارتآه بل يجتهد ليصل إلى ما يظن أنه حكم الله سبحانه وتعالى.
وكل من أمر بما يخالف أمر الله فهو معرض للعقوبة فالأمر كله لله، كونياً قدرياً، وتشريعياً دينياً.
الحكم لله وحده:
وكما الأمر لله وحده فكذلك الحكم لله وحده، الحكم في عباده وخلقه كوناً وقدراً، والحكم في عباده ديناً وشرعاً. قال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً}، وقال تعالى: {له الحكم وإليه ترجعون}.
فلا يحكم في عباده إلا هو، ولو اجتمع أهل الأرض أن ينفعوا واحداً ما نفعوه إلا بأمره ومشيئته وحكمه، وعلى أن يضروه ما ضروه إلا بأمره ومشيئته وحكمه.
بل لا يستطيع أحد أن ينفع نفسه بنافعة إلا بأمره وقضائه وقدرته وحكمه، ولا أن يضر نفسه إلا بمشيئته وأمره وحكمه. فمصائر العباد كلها بين يديه، والحكم عليهم خيراً وشراً إليه، ولا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه وأمره، وحكمه.
لا إله إلا هو سبحانه وتعالى:
ولما كان الرب سبحانه هو الخالق وحده، والمصور وحده، والمتصرف في خلقه وحده، والملك وحده، والمالك وحده، والحاكم وحده، والآمر وحده كان كذلك هو الإله المعبود وحده...
فإن من كانت له هذه الصفات فإنه لا تنبغي العبادة بكل معانيها إلا له وحده.
فالعبادة وهي تعني الذل والخضوع والطاعة والإنابة والتعظيم والتقديس والتسبيح والتنزيه والحمد، وما يستلزم ذلك، ويقتضيه من المحبة والخضوع والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة والخوف والخشية.
وهنا نصل إلى معنى التسبيح وهو اعتقاد وانتفاء ما يضاد هذه الصفات عن الرب تبارك وتعالى.
فكل ما يضـاد صفة الله الثابتة له، يجب نفيها عن الله سبحانه، ونفي ما يضاد صفات الحمد هو معنى تسبيح الله وتنزيهه.
***********
*****